الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأحسب أنّ التجاء اليهود إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك ليس لأنّهم يصدّقون برسالته ولا لأنّهم يعُدّون حكمهُ ترجيحًا في اختلافهم ولكن لأنّهم يَعدّونه ولي الأمر في تلك الجهة وما يتبعها.ولهم في قواعد أعمالهم وتقادير أحْبارهم أن يطيعوا ولاة الحكم عَليهم من غير أهل ملّتهم.فلمّا اختلفوا في حكم دينهم جعلوا الحكم لغير المختلفين لأنّ حكم وليّ الأمر مطاع عندهم.فحكَم رسول الله حكمًا جمع بين إلزامهم بموجب تحكيمهم وبين إظهار خَطَئهم في العدول عن حكم كتابهم، ولذلك سمّاه الله تعالى القسط في قوله: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط}.ويحتمل أن يكون ناشئًا عن رأي من يثبت منهم رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم ويقول: إنّه رسول للأميّين خاصّة.وهؤلاء هم اليهود العيسوية، فيكون حكمه مؤيّدًا لهم، لأنّه يعدّ كالإخبار عن التّوراة، ويؤيّده ما رواه أبو داوود عن أبي هريرة أنّ يهوديًا زنى بيهوديّة فقال بعضهم لبعض: اذهبُوا بنا إلى محمّد فإنّه بُعث بالتّخفيف، فإن أفتى بالجلد دون الرجم قِبلنا واحتججنا بها عند الله وقلنا فُتْيَا نبيء من أنبيائك، وإمّا أن يكون ذلك من نوع الاعتضاد بموافقة شريعة الإسلام فيكون ترجيح أحد التأويلين بموافقته لشرع آخر.ويؤيّده ما رواه أبو داوود والترمذي أنّهم قالوا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل؛ وإمّا أن يكونوا قد عدلوا عن حكم شريعتهم توقّفًا عند التّعارض فمالوا إلى التّحكيم.ولعلّ ذلك مباح في شرعهم، ويؤيّده أنّه ورد في حديث البخاري وغيره أنّهم لمّا استفتوا النّبيء صلى الله عليه وسلم انطلق مع أصحابه حتّى جَاء المدارس وهو بيت تعليم اليهود وحاجَّهُم في حكم الرّجم، وأجابه حَبران منهم يُدعيان بابْنَي صوريا بالاعتراف بثبوت حكم الرجم، في التّوراة؛ وإمّا أن يكونوا حكّموا النّبيء صلى الله عليه وسلم قصدًا لاختباره فيما يدّعي من العلم بالوحي، وكان حكم الرجم عندهم مكتومًا لا يعلمه إلاّ خاصّة أحبارهم، ومنسيًا لا يذكر بين علمائهم، فلمّا حَكم عليهم به بهتوا، ويؤيّد ذلك ما ظهر من مرادهم في إنكارهم وجود حكم الرّجم.ففي «صحيح البخاري» أنّهم أنكروا أن يكون حكم الرجم في التّوراة وأنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم جاء المدراس فأمر بالتّوراة فنشرت فجعل قارئهم يقرأ ويضع يده على آية الرجم وأنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على ذلك فأمره أن يرفع يده وقرئت آية الرجم واعترف ابنَا صوريا بها.وأيّامّا كان فهذه الحادثة مؤذنة باختلال نظام الشّريعة بين اليهود يومئذٍ وضعف ثقتهم بعلومهم.ومعنى {لا يحزنك الّذين يسارعون} نهيه عن أن يحصل له إحزانٌ مسند إلى الّذين يسارعون في الكفر.والإحزاننِ فِعل الّذين يسارعون في الكفر، والنّهي عن فعل الغير إنّما هو نهي عن أسبابه، أي لا تجعلْهم يحْزنونك، أي لا تهتمّ بما يفعلون ممّا شأنه أن يُدخِل الحزن على نفسك.وهذا استعمال شائع وهو من استعمال المركّب في معناه الكِنائي.ونظيره قولهم: لا أعرفَنَّك تفعل كذا، أي لا تفعل حتّى أعرفَه.وقولهم: لا أُلفينّك هَهنا، ولاَ أرَيَنّك هنا.وإسناد الإحزان إلى الّذين يسارعون في الكفر مجاز عقلي ليست له حقيقة لأنّ الّذين يسارعون سبب في الإحزان، وأمّا مثير الحزن في نفس المحزون فهو غير معروف في العرف؛ ولذلك فهو من المجاز الّذي ليست له حقيقة.وأمّا كون الله هو موجد الأشياء كُلّها فذلك ليس ممّا تترتّب عليه حقيقة ومجاز؛ إذ لو كان كذلك لكان غالب الإسناد مجازًا عقليًا، وليس كذلك، وهذا ممّا يغلط فيه كثير من النّاظرين في تعيين حقيقة عقليّة لبعض موارد المجاز العقلي.ولقد أجاد الشيخ عبد القاهر إذ قال في «دلائل الإعجاز» «اعلم أنّه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التّقدير إذا أنتَ نقلت الفعل إليه صار حقيقة فإنّك لا تجد في قولك: أقدمَني بَلَدَك حقّ لي على فلان، فاعلًا سوى الحقّ، وكذلك في قوله:
ويزيدك وجهه حُسنًا.أنْ تزعم أن له فاعلًا قد نُقل عنه الفعل فجُعل للهوى وللوجه» اهـ.وقال ابن عاشور:ولقد وَهِمَ الإمام الرازي في تبيين كلام عبد القاهر فطفق يجلب الشّواهد الدّالة على أنّ أفعالًا قد أسندت لفاعل مجازي مع أنّ فاعلها الحقيقي هو الله تعالى، فإنّ الشّيخ لا يعزب عنه ذلك ولكنّه يبحث عن الفاعل الّذي يسند إليه الفعل حقيقة في عرف النّاس من مؤمنين وكافرين.ويدلّ لذلك قوله: «إذا أنتَ نقلت الفعل إليه» أي أسندتَه إليه.ومعنى المسارعة في الكفر إظهار آثاره عند أدنى مناسبة وفي كلّ فرصة، فشبّه إظهاره المتكرّرُ بإسراع الماشي إلى الشيء، كما يقال: أسرع إليه الشيب، وقوله: إذا نهي السفيه جرى إليه.وعدّي بفي الدالّة على الظرفية للدلالة على أنّ الإسراع مجاز بمعنى التوغّل، فيكون «في» قرينة المجاز، كقولهم: أسْرع الفساد في الشيء، وأسْرع الشيب في رأس فلان.فجعل الكفر بمنزلة الظّرف وجعل تخبّطهم فيه وشدّة ملابستهم إيّاه بمنزلة جولان الشّيء في الظرف جولانًا بنشاط وسرعة.ونظيره قوله: {يسارعون في الإثم} [المائدة: 62]، وقوله: {نسارع لهم في الخيرات} المؤمنون: 56)، {أولئك يسارعون في الخيرات} [المؤمنون: 61].فهي استعارة متكرّرة في القرآن وكلام العرب.وسيجيء ما هو أقوى منها وهو قوله: {يسارعون فيهم} [المائدة: 52].وقوله: {من الّذين قالوا آمنّا بأفواههم} إلخ بيان للّذين يسارعون في الكفر.والّذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم هم المنافقون.وقوله: {ومن الّذين هادوا} معطوف على قوله: {من الّذين قالوا آمنّا} والوقفُ على قوله: {ومن الّذين هادوا}.وقوله: {سمّاعون للكذب} خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هم سمّاعون للكذب.والظاهر أنّ الضّمير المقدّر عائد على الفريقين: المنافقين واليهودِ، بقرينة الحديث عن الفريقين.وحذفُ المسند إليه في مثل هذا المقام حذف اتّبع فيه الاستعمال، وذلك بعد أن يذكروا متحدّثًا عنه أو بعدَ أن يصدر عن شيء أمر عجيب يأتون بأخبار عنه بجملة محذوففٍ المبتدأ منها، كقولهم للّذي يصيب بدون قصد «رَمْيَة من غير رَام»، وقول أبي الرقَيش: وقول بعض شعراء الحماسة: عقب قوله: والسمَّاع: الكثيرُ السمع، أي الاستماععِ لما يقال له.والسَّمع مستعمل في حقيقته، أي أنّهم يُصغون إلى الكلام الكذب وهم يعرفونه كَذِبا، أي أنّهم يحفلون بذلك ويتطلّبونه فيكثر سماعهم إيّاه.وفي هذا كناية عن تفشّي الكذب في جماعتهم بين سامع ومختلق، لأنّ كثرة السمع تستلزم كثرة القول.والمراد بالكذب كذب أحبارهم الزاعمين أنّ حكم الزّنى في التّوراة التّحميمُ.وجملة {سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك} خبر ثان عن المبتدأ المحذوف.والمعنى أنّهم يقبلون ما يأمرهم به قوم آخرون من كَتم غرضهم عن النّبيء صلى الله عليه وسلم حتّى إن حكم بما يهوَون اتّبعوه وإن حكم بما يخالف هواهم عصَوه، أي هم أتباع لقوم متستّرين هم القوم الآخرون، وهم أهل خيبر وأهل فَدَك الّذين بعثوا بالمسألة ولم يأت أحد منهم النّبيء صلى الله عليه وسلم واللام في {لِقوم} للتقوية لضعف اسم الفاعل عن العمل في المفعول.وجملة {يحرّفون الكلم} صفة ثانية {لقوم آخرين} أو حال، ولك أن تجعلها حالًا {من الّذين يسارعون في الكفر}.وتقدّم الكلام في تحريف الكلم عند قوله تعالى: {من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه} في سورة النّساء (46)، وأنّ التّحريف الميل إلى حرف، أي جانب، أي نقله من موضعه إلى طرف آخر.وقال هنا مِن بعد مواضعه، وفي سورة النساء (46) عَن مواضعه، لأنّ آية سورة النّساء في وصف اليهود كلّهم وتحريفهم في التّوراة.فهو تغيير كلام التّوراة بكلام آخر عن جهل أو قصد أو خطأ في تأويل معاني التّوراة أو في ألفاظها.فكان إبعادًا للكلام عن مواضعه، أي إزالة للكلام الأصلي سواء عوّض بغيره أو لم يعوّض.وأمّا هاته الآية ففي ذكر طائفة معيّنة أبطلوا العمل بكلام ثابتتٍ في التّوراة إذْ ألغوا حكم الرّجم الثّابت فيها دون تعويضه بغيره من الكلام، فهذا أشدّ جرأة من التّحريف الآخر، فكان قوله: {من بعد مواضعه} أبلغَ في تحريف الكلام، لأنّ لفظ {بعد} يقتضي أنّ مواضع الكلم مستقرّة وأنّه أبطل العمل بها مع بقائها قائمة في كتاب التّوراة.والإشارة الّتي في قوله: {إن أوتيتم هذا} إلى الكلم المحرّف.والإيتاء هنا: الإفادة كقوله: {وآتاه الله المُلك والحكمة} [البقرة: 251].والأخذ: القبول، أي إن أُجبتم بمثل ما تهوَون فاقبلوه وإن لم تجَابوه فاحذروا قبوله.وإنّما قالوا: فاحذروا، لأنّه يفتح عليهم الطعن في أحكامهم الّتي مَضَوْا عليها وفي حكّامهم الحاكمين بها.وإرادة الله فتنة المفتون قضاؤها له في الأزل، وعلامة ذلك التّقدير عدم إجداء الموعظة والإرشاد فيه.فذلك معنى قوله: {فلَن تملك له من الله شيئًا}، أي لا تبلغ إلى هديه بما أمرك الله به من الدّعوة للنّاس كافّة.وهذا التّركيب يدلّ على كلام العرب على انتفاء الحيلة في تحصيل أمر مّا.ومدلول مفرداته أنّك لا تملك، أي لا تقدر على أقلّ شيء من الله، أي لا تستطيع نيل شيء من تيسير الله لإزالة ضلالة هذا المفتون، لأنّ مادّة المِلك تدلّ على تمام القدرة، قال قَيْس بن الخطيم: أي شددت بالطعنة كفّي، أي ملكتها بكفّي، وقال النّبيء صلى الله عليه وسلم لعُيَينة بن حِصْن «أوَ أمْلِكُ لك أن نزع الله من قلبك الرّحمة» وفي حديث دعوة الرّسول صلى الله عليه وسلم عشيرته «فإنّي لا أغني عنكم من الله شيئًا».و{شيئًا} منصوب على المفعولية.وتنكير {شيئًا} للتقليل والتّحقير، لأنّ الاستفهام لمّا كان بمعنى النّفي كان انتفاء ملك شيء قليلٍ مقتضيًا انتفاءَ ملك الشيء الكثير بطريق الأولى.والقول في قوله: {أولئك الّذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم} كالقول في قوله: {ومن يرد الله فتنته}.والمراد بالتطهير التهيئة لقبول الإيمان والهدَى أو أراد بالتطهير نفس قبول الإيمان.والخزي تقدّم عند قوله تعالى: {إلاّ خزي} في سورة البقرة (85)، وقوله: {ربنا إنّك من تدخل النار فقد أخزيته} في سورة آل عمران (192). اهـ.
|